فصل: قال الثعلبي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهكذا باشر شعيب عليه السلام مهمة في قصة موسى عليه السلام.
ومن هذا ومن ذلك يعطينا الحق سبحانه الدرس بأن الفطرة السليمة لها تقنينات قد تلتقي مع قانون السماء؛ لأن الحق سبحانه لا يمنع عقول البشر أن تصل إلى الحقيقة، لكن العقول قد تصل إلى الحقيقة بعد مرارة من التجربة، مثلما قنَّن الحق سبحانه الطلاق في الإسلام، ثم أخذت به بلاد أخرى غير مسلمة بعد أن عانت مُرَّ المعاناة.
ومثلما حرَّم الحق سبحانه الخمر، ثم أثبت العلم مضارها على الصحة، فهل كنا مطالبين بأن نؤجل حكم الله تعالى إلى أن يهتدي العقل إلى تلك النتائج؟
لا؛ لأن الحق سبحانه قد أنزل في القرآن قانون السماء الذي يقي الإنسان شر التجربة؛ لأن الذي أنزل القرآن سبحانه هو الذي خلقنا وهو مأمون علينا، وقد أثبتت الأيام صدق حكم الله تعالى في كل ما قال بدليل أن غير المؤمنين بالقرآن يذهبون إلى ما نزل به القرآن ليطبقوه.
وفي قصة موسى عليه السلام مثل واضح على مشيئة الحق سبحانه، فها هو فرعون الكافر قد قام بتربية موسى بعد أن التقطه لعله يكون قرة عين له، رغم أن فرعون كان يُقتِّل أطفال تلك الطائفة.
ثم تلحظ أخت موسى أخاها، ويرد الحق سبحانه موسى عليه السلام إلى أمه.
وقد صوَّر الشاعر هذا الموقف بقوله:
إذا لَمْ تُصادِفْ في بَنِيكَ عِنَايةً ** مِنَ اللهِ فقدْ كَذبَ الرَّاجِي وخَابَ المأملُ

فَمُوسَى الذي رَبَّاهُ جِبريلُ كافرٌ ** ومُوسَى الذي ربَّاه فِرْعونُ مُرسَلُ

وقد جاءت قصة موسى عليه السلام هنا موجزة، في البداية وفي النهاية؛ ليبيِّن لنا الحق سبحانه أن لشعيب دورًا مع واحد من أولي العزم من الرسل، وهو موسى عليه السلام، وكان مقصود موسى عليه السلام قبل أن يبعث هو ماء مدين، فحدث ما يمكن أن نجد فيه حلًا لمشاكل الجنسين الرجل والمرأة وهي رأس الحربة التي تُوجَّه إلى المجتمعات الإسلامية؛ لأن البعض يريد أن تتبذل المرأة في مفاتنها، لإغواء الشباب في أعز أوقات شراسة المراهقة.
لكن القرآن حَلَّ هذه المسألة في رحلة بسيطة، ولنقرأ قول الحق سبحانه عن موسى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ} [القصص: 23].
أي: تمنعان الماشية من الاقتراب من المياه، وكان هذا المشهد مُلْفتًا لموسى عليه السلام، وكان من الطبيعي أن يتساءل: ألم تأتيا إلى هنا لتسقيا الماشية؟! وقال القرآن السؤال الطبيعي: {مَا خَطْبُكُمَا} [القصص: 23].
فتأتيه الإجابة من المرأتين: {قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23].
وهكذا نعلم أن خروج المرأة له علة أن الأب شيخ كبير، وأن خروج المرأتين لم يكن بغرض المزاحمة على الماء، ولكن بسبب الضرورة، وانتظرتا إلى أن يسقي الرعاة، بل ظلَّتا محتجبتين بعيدًا؛ لذلك تقدم موسى عليه السلام ليمارس مهمة الرجل: {فسقى لَهُمَا} [القصص: 24].
وهذه خصوصية المجتمع الإيماني العام، لا خصوصية قوم، ولا خصوصية قربى، ولا خصوصية أهل، بل خصوصية المجتمع الإيماني العام.
فساعة يرى الإنسان امرأة قد خرجت إلى العمل، فيعرف أن هناك ضرورة ألجأتها إلى ذلك، فيقضي الرجل المسلم لها حاجتها.
وأذكر حين ذهبت إلى مكة في عام 1950م أن نزل صديقي من سيارته أمام باب منزلٍ، وكان يوجد أمام الباب لوح من الخشب عليه أرغفة من العجين التي لم تخبز بعد، وذهب به إلى المخبز، ثم عاد به بعد خبزه إلى نفس الباب. وقال لي: إن هذه هي عادة أهل مكة، إن وجد إنسان لوحًا من العجين غير المخبوز؛ فعليه أن يفعل ذلك؛ لأن وجود هذا اللوح أمام الباب إنما يعني أن الرجل رب البيت غائب.
وهذا كله مأخوذ من كلمة: {فسقى لَهُمَا} [القصص: 24].
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأمر الجنود أن تدق الأبواب لتسأل أهل البيوت عن حاجاتهم.
والأمر الثالث والمهم هو أن المرأة التي تخرج إلى مهمة عليها ألا تستمرئ ذلك، بل تأخذها على قدر الضرورة، فإذا وجدت منفذًا لهذه الضرورة، فعليها أن تسارع إلى هذا المنفذ، ولذلك قالت الفتاة لأبيها شعيب: {يا أبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} [القصص: 26].
ويُنهي شعيب عليه السلام هذا الموقف إنهاءً إيمانيًا حكيمًا حازمًا، فيقول لموسى: {قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ} [القصص: 27].
وهكذا يعلم موسى عليه السلام أن شعيبًا لا يُلقي بابنته هكذا دون مهر، لا.. بل لابد أن يكون لها مهر، وأيضًا تصبح أختها محرمة عليه.
وهذه القصة وضعت لنا مبادئ تحل كل المشكلات التي يتشدق بها خصوم الإسلام.
وهنا نحن نجد في الغرب صيحات معاصرة تطالب بأن تقوم المرأة بالبقاء في المنزل لرعاية الأسرة والأولاد؛ ليس لأن المرأة ناقصة، ولكن لأن كمال المرأة في أداء أسمى مهمة توكل إليها، وهي تربية الأبناء.
ونحن نعلم أن طفولة الإنسان هي أطول أعمار الطفولة في كل الكائنات، والأبناء الذين ينشأون برعاية أم متفرغة يكونون أفضل من غيرهم. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {وإلى مَدْيَنَ أخاهم} يعني: وأرسلنا إلى مدين أَخَاهُمْ: {شُعَيْبًا قَالَ يا قوم قَوْمٌ اعبدوا الله} يعني: وحدوا الله وأطيعوه، {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} يعني: ليس لكم رب سواه، {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} في البيع والشِّراء، {إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} يعني: بسعة في المال، والنعمة، {وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} يعني: إن لم ترجعوا عن نقصان المكيال والميزان، تزول عنكم النعمة والسعة، ويصيبكم القحط والشدة وعذاب الآخرة.
وقال مجاهد: إني أراكم بخير يعني: برخص السعر: {ويا قوم أَوْفُواْ المكيال والميزان}، يعني: أتموا الكيل والوزن: {بالقسط} يقول: بالعدل: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} يعني: لا تنقصوا الناس حقوقهم: {وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض مُفْسِدِينَ} يعني: لا تسعوا في الأرض، بالفساد والمعاصي، ونقصان الكيل، والوزن. وقال سعيد بن المسيب: إذا أتيت أرضًا يوفون المكيال، والميزان، فأطل المقام بها، وإذا أتيت أرضًا ينقصون المكيال والميزان، فأقل المقام بها.
وقال عكرمة: أشهد أن كل كيال ووزان في النار. قيل له: فمن وفى الكيل والوزن؟ قال: ليس رجل في المدينة يكيل كما يكتال، ولا يزن كما يتزن.
والله تعالى يقول: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1].
ثم قال تعالى: {بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ} قال ابن عباس: ما أبقى الله لكم من الحلال، خير لكم من الحرام، {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} يعني: مصدقين. فصدقوني فيما أقول لكم. وقال مجاهد: {بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ} يعني: طاعة الله خير لكم. ويقال: ثواب الله خير لكم في الآخرة: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} يعني: رقيبًا ووكيلًا، وإنما عليَّ البلاغ: {قَالُواْ يا شُعَيْبٌ أصلواتك تَأْمُرُكَ} يعني: قال له قومه.
قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية حفص، {أصلاتُكَ} بلفظ الواحد يعني: أقراءتك.
ويقال: أدعاؤك. وقرأ الباقون: {ياشعيب أصلواتك} بلفظ الجماعة، يعني: أكثرة صلواتك تأمرك: {أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} وكان شعيب كثير الصلاة، {قَالُواْ ياشعيب أصلواتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا} من نقصان الكيل والوزن؟: {إِنَّكَ لاَنتَ الحليم الرشيد} يعني: السفيه الضال، استهزاء منهم به.
{قَالَ يَا قَوْمٌ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} يعني: على دين، وطاعة، وبيان، وأتاني رحمة من ربي، {وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} يعني: بعثني بالرسالة فهداني لدينه، ووسع عليَّ من رزقه.
وقال الزجاج: جواب الشرط هاهنا متروك.
المعنى: إن كنت على بينة من ربي، أتبع الضلال: فترك الجواب لعلم المخاطبين بالمعنى.
ثم قال: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ} يعني: لا أنهاكم عن شيء، وأعمل ذلك العمل، من نقصان الكيل والوزن.
ومعناه: أختار لكم ما أختار لنفسي، نصيحة لكم وشفقة عليكم، {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح} يقول: ما أريد إلا العدل: {مَا استطعت} يعني: ما قدرت يعني لا أترك جهدي في بيان ما فيه مصلحة لكم.
ثم قال: {وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بالله} يعني: وما تركي هذه الأشياء ودعوتي إلا بالله، يعني: إلا بتوفيق الله وبأمره، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} يعني: وثقت به: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} يعني: أقبل وأدعو إليه بالطاعة.
ثم قال تعالى: {ويا قوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى} يعني: لا يحملنكم بغضي وعداوتي، أن لا تتوبوا إلى ربكم، {أَن يُصِيبَكُمُ} يعني: يقع بكم العذاب، {مّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} يعني: مثل عذاب قوم نوح بالغرق، {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} بالريح، {أَوْ قَوْمَ صالح} الصيحة، فإن طال عهدكم بهم، فاعتبروا بمن أقرب منكم، وهم قوم لوط، فقال: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ} يعني: كان هلاكهم قريبًا منكم، ولا يخفى عليكم أمرهم.
قوله تعالى: {واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} يعني: وتوبوا إلى الله، {إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ} بعباده، {وَدُودٌ} يعني: متودد إلى أوليائه بالمغفرة، ويقال: محب لأهل طاعته.
ويقال: الودود بمعنى الواد.
قوله تعالى: {قَالُواْ يا شُعَيْبٌ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ} يعني: لا نعقل ما تدعونا إليه، من التوحيد، ومن وفاء الكيل والوزن.
يعنون: إنك تدعونا إلى شيء، خلاف ما كنا عليه وآباؤنا، {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} يعني: ومع ذلك أنت ضعيف فينا.
وقال مقاتل: يعني: ذليلًا لا قوة لك، ولا حيلة.
وقال الكلبي: يعني: ضرير البصر.
ويقال: إنه ذهب بصره من كثرة بكائه من خشية الله تعالى، ويقال: وحيدًا لم يوافقك من عظمائنا أحد.
{وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك} يعني: لولا عشيرتك لقتلناك، لأنهم كانوا يقتلون رجمًا.
وقال القتبي: أصل الرجم: الرمي.
كقوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُومًا للشياطين وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير} [الملك: 5] ثم قد يستعار ويوضع موضع الشتم إذ الشتم رَمْيٌ، كقوله: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى يا إبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهجرنى مَلِيًّا} [مريم: 46] يعني: لأشتمنك.
ويوضع موضع الظن، كقوله: {سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل ربى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظاهرا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22] أي ظنًا.
والرجم أيضًا: الطرد واللعن، وقيل للشيطان رجيم: لأنه طريد يرجم بالكواكب.
وقد يوضع الرجم موضع القتل، لأنهم كانوا يقتلون بالرجم.
ولأن ابن آدم قتل أخاه بالحجارة.
فلما كان أول القتل رجمًا، سمي القتل رجمًا، وإن لم يكن بالحجارة.
ثم قالوا: {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} يعني: بكريم، ويقال: بعظيم، يعني: لا خطر لك عندنا لولا حرمة عشيرتك.
ويقال: ما قتلك علينا بشديد.
ثمّ: {قَالَ} لهم شعيب عليه السلام: {قَالَ يا قوم أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله} يعني: حرمة قرابتي أعظم عندكم من حرمة الله تعالى؟ ويقال خوفكم من عقوبة قرابتي أكبر من خوف الله.
ويقال: عشيرتي أعظم عليكم من كتاب الله تعالى، ومن أمره؟: {واتخذتموه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا} يقول: تركتم أمر الله تعالى وراءكم، خلف ظهوركم، وتعظمون أمر رهطي، وتتركون تعظيم الله تعالى، ولا تخافونه؟ وهذا قول الفراء.
وقال الزجاج: معناه: اتخذتم أمر الله وراءكم ظهريًا، أي نبذتموه وراء ظهوركم، والعرب تقول: لكل من لا يعبأ بأمر قد جعل فلان هذا الأمر بظهره.
وقال الأخفش، وراءكم ظهريًا، يقول: لم تلتفوا إليه.
{إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} يعني: عالمًا بأعمالكم، من نقصان الكيل والوزن، وغيره.
والإحاطة: هي إدراك الشيء بكماله.
ثم قال تعالى: {لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} يعني: اعملوا في هلاكي، وفي أمري، {إِنّى عامل} في أمركم، والمكانة، والمكان بمعنى واحد.
ثم قال: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ}، وهذا وعيد لهم، {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} يعني: يهلكه ويهينه، {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} يعني: ستعلمون من هو كاذب.
ويقال معناه: من يأتيه عذاب يخزيه، ويخزي أمره.
من هو كاذب على الله بأن معه شريكًا، {وارتقبوا} يعني: انتظروا بي العذاب: {إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} يعني: منتظر بكم العذاب في الدنيا.
قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} يعني: عذابنا، وذلك: أنه أصابهم حر شديد، فخرجوا إلى غيضة لهم، فدخلوا فيها، فظهرت لهم سحابة كهيئة الظلة، فأحرقت الأشجار.
وصاح جبريل صيحة، فماتوا كلهم، كما قال في آية أُخرى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189] وذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} يعني: عذابنا: {نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} يعني: صيحة جبريل: {فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جاثمين} يعني: صاروا في مواضعهم ميتين لا يتحركون.
قوله تعالى: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} يعني: كأن لم يعمروا فيها، {أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ} يعني: بعدًا من رحمة الله تعالى، {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} من رحمته.
وروى أبو صالح، عن ابن عباس، قال: لم تعذب أمتان بعذاب واحد، إلا قوم شعيب وصالح، صاح بهم جبريل فأهلكهم. اهـ.

.قال الثعلبي في الآيات السابقة:

{وإلى مَدْيَنَ} يعني وأرسلنا إلى قوم مدين بن إبراهيم، {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} بن شرون بن أيوب بن مدين بن إبراهيم.
{قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} وكانوا يطفِّفون: {إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} قال ابن عباس رضي الله عنه: موسرين في نعمة، الحسن: الغنى ورخص السعر، قتادة: المال وزينة الدنيا، الضحاك: رغد العيش وكثرة المال، مجاهد: خصب وسعة، وغيرهم في غلاء السعر وزوال النعمة وحلول النقمة إن لم يتوبوا: {وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} محيط بكم فلا يفلت منكم أحد.
{وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان} اكتالوا بالقسط: {وَلاَ تَبْخَسُواْ} ولا تنقصوا: {الناس أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قال ابن عباس: ما أبقى الله لكم من الحلال، وإيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف، قال مجاهد: الطاعة، سفيان: رزق الله، قتادة: حظكم من ربكم، ابن زيد: الهلاك في العذاب والبقية: الرحمة، الفرّاء: مراقبة الله: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} وإنما قال هذا لأن شعيبًا لم يؤمر بالقتال.
{قَالُواْ ياشعيب أصلاوتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} من الأوثان، قال ابن عباس: كان شعيب كثير الصلاة لذلك قالوا هذا، قال الأعمش: يعني قراءتك: {أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} يعني أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، وقرأ بعضهم: تفعل وتشاء بالتاء يعني: تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء فيكون راجعًا إلى الأمر لا إلى الترك.
قال أهل التفسير: كان هذا نهيًا لهم عنه وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم. فلذلك قالوا: وأن نفعل ما نشاء: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} قال ابن عباس: السفية الغاوي. قال القاضي: والعرب تصف الشيء بضده، للتطير والفأل كما قيل للدّيغ: سليم، وللفأرة: مفازة.
وقيل: هو على الاستهزاء، كقولهم للحبشي: أبو البيضاء، وللأبيض: أبو الجون، ومنه قول خزنة النار لأبي جهل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49]. وقيل: معناه الحليم الرشيد بزعمك وعندكن ومثله في صفة أبي جهل، وقال ابن كيسان: هو على الصحة أي أنّك يا شعيب لنا حليم رشيد، فليس يجمل بك شق عصا قومك ولا مخالفة دينهم، كقول قوم صالح له: {ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا}.
{قَالَ يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ} حجّة وبصيرة وبيان وبرهان: {مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} حلالا طيبًا من غير بخس ولا تطفيف، وقيل: علمًا ومعرفة: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} ما أريد أن أنهاكم عن أمر وأرتكبه: {إِنْ أُرِيدُ} ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه: {إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت وَمَا توفيقي إِلاَّ بالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي أرجع فيما ينزل بي من النوائب، وقيل: إليه أرجع في الآخرة.
{وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يحملنكم: {شقاقي} خلافي وفراقي: {أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} من العذاب: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط، وقيل: ما دارُ قوم لوط منكم ببعيد: {واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} محبّ المؤمنين، وقيل: مودود للمؤمنين ومحبوبهم.
{قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} وذلك أنه كان ضريرًا، قال سفيان: كان ضعيف البصر، وكان يقال له خطيب الأنبياء: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ} عشيرتك وكان في عزة ومنعة من قومه: {لَرَجَمْنَاكَ} لقتلناك: {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ قَالَ ياقوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله واتخذتموه وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} قيل: الهاء راجعة إلى الله وقيل: إلى أمر الله وما جاء به شعيب، أي نبذتموه وراء ظهوركم وتركتموه، يقال: جعلت أمري بظهر إذا قصر في أمره وأخلّ بحقه.
{إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ويا قوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} أي تؤدتكم ومكانكم، يقال: فلان يعمل على مكانته ومكنته إذا عمل على تؤدّهُ تمكن. ويقال: مُكن يمكن مكنًا مكانًا ومكانة، {إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أيّنا الجاني على نفسه، والأخطى في فعله، وذلك قوله: {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} قيل: {مَن} في محل النصب أي فسوف تعلمون من هو كاذب، وقيل: ويخزي من هو كاذب، وقيل: محله رفع تقديره: ومن هو كاذب فيعلم كذبه ويذوق وبال أمره: {وارتقبوا} وانتظروا العذاب: {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} منتظر.
{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} صيحة من السماء أخذتهم وأهلكتهم، ويقال: إن جبريل صاح بهم صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم.
{فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} ميتين ساقطين هلكى صرعى: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ} يكونوا: {فِيهَا أَلاَ بُعْدًا} هلاكًا وغضبًا: {لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ} هلكت: {ثَمُودُ}. اهـ.